{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران : 200
ينبغي للمؤمن أن يضع هذه الآية الشريفة دستورا لحياته, وأن يستحضرها دائما امام عينينيه, ففي ذلك سعادته ونجاته, وفوزه برضا الله سبحانه وتعالى.
في هذه الآية الشريفة كنوز من الأسرار و المعارف القرآنية التي تساعد في بناء الذات و تجعلها متسمة بالإيمان, وتزيد من قربها من ساحة القرب الإلهي.
سنشير إلى أراء علمائنا الأبرار حول هذه الآية الشريفة, لنقف على جوانب العظمة التربوية التي تحملها بين ثناياها.
في تفسير القمي :
وحدثني ابي عن الحسن (الحسين ط) بن خالد عن الرضا (عليه السلام) قال : إذا كان يوم القيامة ينادي مناد اين الصابرون؟ فيقوم فئام من الناس ثم ينادي اين المتصبرون، فيقوم فئام من الناس، قلت : جعلت فداك وما الصابرون؟ قال : على اداء الفرايض والمتصبرون علي اجتناب المحارم.
وقد أعطى الشيخ الشيرازي مزيدا من الإيضاح حول دلالة هذه المفردات القرآنية, حيث ذكر في الأمثل :
«اصبروا»: إِن أوّل مادة في هذا البرنامج الذي يكفل عزّة المسلمين وانتصارهم هو الاستقامة والثبات، والصبر في وجه الحوادث الذي هو ـ في الحقيقة ـ أصل كلّ نجاح مادي، وعلّة كل انتصار معنوي، وهو الأمر الذي يستحق حديثًا مفصلا لما له من أثر جدّ مهم في الإِنتصارات والنجاحات الفردية والاجتماعية، وهو الذي قال عنه الأِمام علي(عليه السلام) في حكمه وكلماته القصار: «إِن الصبر من الإِيمان كالرأس من الجسد».
2 ـ «وصابروا» وهي من المصابرة (من باب المفاعلة) بمعنى الصبر والاستقامة والثبات في مقابل صبر الآخرين وثباتهم واستقامتهم.
وعلى هذا فإِن القرآن يوصي المؤمنين أوّلا بالصبر والاستقامة (التي تشمل كل ألوان الجهاد، كجهاد النفس، والاستقامة في مواجهة مشاكل الحياة)، ثمّ يوصي ثانيًا بالصبر والثبات والاستقامة أمام الأعداء، وهذا بنفسه يفيد أن الأُمّة ما لم تتغلب وتنتصر في جهادها مع النفس، وفي إِصلاح ما بها من نقاط الضعف الداخلية يستحيل انتصارها على الأعداء، وهذا يعني أن أكثر هزائمها أمام أعدائها إِنّما هي بسبب ما لحق بها من هزائم في جبهة الجهاد مع النفس وما أصابها من إخفاقات في إصلاح نقاط الضعف التي تعاني منها.
كما وأنّه يستفاد من هذا التعليم «صابروا» أن على المسلمين أن يضاعفوا من صبرهم ومن ثباتهم كلما ضاعف العدو من صبره وثباته ومقاومته وعناده.
3 ـ «ورابطوا» وهذه العبارة مشتقة من مادة «الرباط» وتعني ربط شيء في مكان (كربط الخيل في مكان)، ولهذا يقال لمنزل المسافرين «الرباط»، ويقال أيضًا ربط على قلبه بمعنى أنّه أعطاه السكينة، وملأه بالطمأنينة وكأن قلبه انشد إِلى مكان، وارتكز على ركن وثيق، و«المرابطة» بمعنى مراقبة الثغور وحراستها لأن فيها يربط الجنود أفراسهم.
وهذه العبارة أمر صريح إِلى المسلمين بأن يكونوا على استعداد دائم لمواجهة الأعداء، وأن يكونوا في حالة تحفز وتيقظ ومراقبة مستمرة لثغور البلاد الإِسلامية وحدودها حتى لا يفاجأوا بهجمات العدوّ المباغتة، كما أنّه حثّ على التأهب الكامل لمواجهة الشيطان،والأهواء الجامحة حتى لا تباغتهم وتأخذهم على حين غرّة وغفلة، ولهذا جاء في بعض الأحاديث عن الإِمام علي(عليه السلام) تفسير المرابطة بانتظار الصلاة بعد الصلاة، لأن من حافظ على يقظة روحه وضميره بهذه العبادات المستمرة المتلاحقة، كان كالجندي المتأهب لمواجهة الأعداء على الدّوام.
وخلاصة القول: إِن للمرابطة معنىً وسيعًا يشمل كل ألوان الدفاع عن النفس والمجتمع.
ثمّ إنّ هناك في الفقه الإِسلامي بابًا خاصًّا ـ في كتاب الجهاد ـ تحت عنوان «المرابطة» بمعنى الاستعداد والتأهب الكامل في الثغور لحراستها وحمايتها وحفظها أمام حملات الأعداء الاحتمالية، وقد ذكرت لها أحكام خاصّة يقف عليها كل من راجع الكتب الفقهية.
هذا وقد أطلق على العلماء ـ كما في بعض الأحاديث ـ صفة المرابط، فعن الإِمام الصادق(عليه السلام):
«علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إِبليس وعفاريته، ويمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا وعن أن يتسلط عليهم إِبليس...».
وتعتبر نهاية هذا الحديث العلماء أعلى مكانة من الجنود وا لقادة الذين يحرسون الثغور ويذبون عنها أعداء الإِسلام. وما ذلك إِلاّ أن العلماء حماة الدين وحرّاسه والأمناء المدافعون عن القيم الإِسلامية، والجنود حماة الثغور الجغرافية، ومن الثابت المسلم به أن الثغور الفكرية والثقافية لأُمّة من الأمم لو تعرضت لكيد الأعداء، ولم تستطع الذّب عنها بنجاح، فإِنّها سرعان ما تصبيها الهزائم العسكرية والسياسية أيضًا."
و يوجد في تفسير القمي إشارة إلى أحد معاني المرابطة وهو السير على خط الأئمة الأطهار, والتزام منهجهم, واتخاذهم هديا في الحياة , حيث ذكر الشيخ القمي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام :
" وأما قوله (اصبروا وصابروا ورابطوا) فانه حدثني ابي عن ابي بصير (ابن ابى عمير ط) عن ابن مسكان عن ابي عبدالله (عليه السلام) قال : اصبروا على المصائب وصابروا على الفرائض ورابطوا على الائمة (عليهم السلام).
لا يوجد تعارض في ذلك, فما التزام خط الأئمة إلا سير على تعاليم النبي محمد صلى الله عليه, فأقوال الأئمة الأطهار عليهم السلام, هي إيضاح لمعاني القرآن من منابع صافية , وهي أقوال جدهم المصطفى صلى الله عليه وآله, لا يحيدون عنه قيد أنملة.
هذه الحديث ليس في الواقع إلا ترجمة أخرى للتمسك بالعترة كما في حديث الثقلين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق